موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

الحركة الآنيّة


للبدء بتحرّي بعض نتائج المبدأ الكوني لإعادة الخلق يمكننا أن نعتبر حالة نقل عرش بلقيس من اليمن إلى القدس بلمح البصر كما وردت قصّته في القرآن الكريم. ولقد ناقش ابن العربي هذه الحالة الغريبة من الحركة في فصوص الحكم التي علّق عليها أيضاً الكثير من تلاميذه محاولين إيضاح رؤيته فيها.

ونحن نعرف طبعاً أنّ الحركة دائماً مهما كانت سريعة فهي تستغرق زمناً، ونعرف أيضاً أنّ أسرع شيءٍ في الطبيعة هو فوتون الضوء الذي يسير بسرعة 300,000 كيلومترا بالثّانية؛ فيمكنه مثلاً أن يدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في الثانية الواحدة. ومع ذلك فهذه السرعة الكبيرة جدّاً لا تزال محدودة وليست آنيّة، فالحركات في الطبيعية دائماً بحاجة إلى زمن.

ولكنّ وصف الله تعالى لهذه القصّة في القرآن الكريم يوحي أنّ عملية نقل عرش بلقيس من اليمن إلى القدس ليست عملية تحريك عاديّة، حيث يقول تعالى في سورة النمل: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)﴾ ولكنّ هذه السرعة العظيمة لا تزال صغيرة، لذلك ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ۚ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)﴾. فمن الواضح أنّ الخضر الذي يُقال أنّه هو الذي قام بنقل العرش من اليمن إلى القدس في زمنٍ قصيرٍ جدّاً يخترق كلّ القوانين الطبيعيّة المعروفة. والمسألة ليست فقط في السرعة الكبيرة بل في قول الله تعالى بعد ذلك ﴿فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ﴾ فلو كانت هذه الحركة مثل الحركات المعهودة لكان هناك تسارعٌ شديدٌ لأنّها انطلقت من الصفر، ثمّ تباطؤٌ شديدٌ لأنّها توقّفت، في حين أنّ الأمر ليس كذلك بل في لمح البصر رآه سيّدنا سليمان مستقرّاً عنده، في حين إنّه لو حصل تسارعٌ أو تباطؤٌ لحصل ارتجاج قويّ كما يحصل عادة أثناء كبح السيّارة لإيقافها في زمن قصير.

وبسبب أهميته الكبيرة في رؤيته للزمن والخلق، يكرّس ابن العربي جزءً كبيراً من الفصّ 16 في كتابه المقتضب فصوص الحكم للتحدّث عن هذه الظاهرة المتميّزة للحركة الآنيّة المرتبطة بنوع من الكرامات أو خرق العادة التي يقوم بها بعض الأوّلياء مثل أصحاب الخطوة وغيرهم.[594] لكنّ ابن العربي يُعلن مباشرة أنّ هذه الحادثة ليست حركةً لكنّ ما حدث هو أنّ العرش فني من مكانه الأصلي وأُعيد خلقه فوراً أمام سليمان عليه السلام قبل أن يرتدّ إليه طرفه. فليست هناك حركة فعليّة في هذه العملية بمعنى أنّ العرش سلك الطريق بين اليمن والقدس وانتقل فيه تدريجيّاً بل إنّ كلّ ما فعله الخضر عليه السلام هو تبديل مكان وجود العرش في اليمن بمكان وجوده أمام سليمان، كما يؤكّد ذلك أيضاً كلٌّ من عبد الرزّاق القيشاني وبالي أفندي اللّذَين شرحا فصوص الحكم.[595]

وهنا قد يعترض البعض على أنّ مثل هذه الأفعال هي نوع من المعجزات ولا يمكن إخضاعها للقوانين الطبيعيّة. ولكنّ ابن العربي يؤكّد كثيراً أنّ مثل هذه المعجزات هي ظواهر لا تخرق القوانين الطبيعيّة لكنّها تخرق العادة فقط،[596] ففي الحقيقة إنّ كلّ شيء يحدث في الطبيعة يجب أن يكون قابلاً للتفسير تحت بعض القوانين الطبيعيّة، ومن حيث المبدأ يمكن إعادته.[597]

وفي الحقيقة إنّ هذه الحركة غير المعتادة تحدث في الطبيعة على نحوٍ واسعٍ جدّاً وذلك وفق نظريّات الفيزياء الحديثة في الذرّة حينما ينتقل الإلكترون من مدارٍ إلى آخر حينما يبعث أو يمتصّ فوتون الضوء؛ فمن المعروف في الفيزياء أنّ الإلكترون كما ذكرنا أعلاه عندما يمتصّ أو يبعث فوتوناً تتغيّر مسافته عن النواة في مركز الذرّة. ولكنّ هذا التغيّر بالمسافة ليس تغيّراً تدريجيّاً بل تغيّر آنيّ: وبمعنى آخر هو لا يسافر خلال المسافة بين المدارين لكنّه يختفي من مداره الأصلي ويظهر ثانية في المدار الجديد. عادة مثل هذا النوع من الحركة الآنية يفسّر بصعوبة وفقاً للمعادلات المبتكَرة لميكانيكا الكمّ، ولكنّه ليس قابلاً للتفسير مطلقاً وفق معادلات ميكانيكا نيوتن الكلاسيكية. إنّ مثل هذا السلوك الغريب للإلكترون وغيره ممّا يُعرف بالانتقال النفقي (electron tunnelling) كان من بين الأسباب الدافعة وراء اكتشاف نظريّة ميكانيكا الكمّ التي أثبتت نجاحها على نطاق واسع.

وإذا تذكّرنا مفهوم ابن العربي للحركة الذي ناقشناه في الفصل الثّاني يمكننا أن نفسّر هذا النوع من الحركة الآنيّة بسهولة لأنّ الحركة، أيّ حركة، وفقاً لابن العربي، ليست تغيّراً تدريجيّاً بين المواقع المختلفة من نقطة البداية إلى نقطة النهاية، بل هي إعادة خلق الجسم في الأماكن الجديدة؛ وعلى هذا الأساس فقط يمكن تفسير متناقضات زينون كما سنرى بعد قليل.

على أيّة حال، إذا أردنا أن نكون دقيقين جدّاً، فإنّ حادثة نقل عرش بلقيس هي مثل حركة الإلكترونات بين المدارات وكذلك جميع الحركات الأوّلّية، تستغرق يوماً واحداً من الأيّام الأصليّة والذي يكافئ ذرّةً أو لحظةً واحدةً من الزّمن الذي نشهده نحن. وبالتالي إنّ قياس الزّمن اللازم لكي ينتقل الإلكترون بين مدارين متجاورين قد يكون هو المفتاح لاختبار نموذج ابن العربي الكوني وتطويره إلى نظريّة علمية متكاملة كما ذكرنا أعلاه.

في الحالات الطبيعية، إنّ المسافة التي تقطعها الأجسام في كلّ ذرّة من الزّمن هي أيضاً قصيرة جدّاً، وهذا ما يجعلنا لا نلاحظ سوى تغييرات تدريجيّة مستمرّة؛ لكن من حيث المبدأ طالما أنّ العمليّة تتضمّن إعادَة خلقٍ فإنّ المسافة بين نقطة البداية والنهاية ليست مهمّة وهي تخضع لنفس القوانين الطبيعيّة في علم الفيزياء أو الميكانيكا. وسوف نجد بعد قليل أنّ مفهوم ابن العربي الغريب للحركة والزّمن وإعادة الخلق سيكون له انعكاسات كبيرة على مفهوم السببيّة الذي يُعدّ المبدأ الأساسي الأوّل في الفيزياء والفلسفة.


[594] استناداً على الدراسات المكثّفة حول هذا الفصّ بالتحديد من كتاب فصوص الحكم يقول هنري كوربن في كتابه (وحيد مع الوحيد) أنّ هناك بالنسبة لرؤية ابن العربي للكون خمس مستويات من الوجود التي هي عبارة عن تنـزّلات إلهيّة أو حضرات وهي: الذات الإلهّية وهي عالم الغيب المطلق، بعد ذلك يأتي عالَم التعيّنات الروحيّة (عالّم الجبروت) ثم عالَم التعيّنات النفسيّة (عالَم الملكوت) ثم عالم الصور الخيالية (أو عالّم البرزخ) وأخيراً عالم الشهادة (عالَم المُلك). ثم يقول إنّ كلّ مستوى أدنى من هذه المستويات الخمس له انعكاس على المستويات الأعلى، ولذلك فإنّ كلّ شيء يظهر إلى الأحاسيس يمثّل شكلاً للحقيقة الموجودة في عالَم الغيب المطلق. فكلّ أنواع الظواهر الخارقة للعادة يمكن أن تفسّر على هذا الأساس بمعنى أنّ الخضر عليه السلام كان يؤثّر بشكل مباشر على تلك المستويات العليا الأعلى من عالَم الشهادة قبل أن يظهر تأثير عمله في عالَم الشهادة. للمزيد راجع كتاب هنري كوربن "وحيد مع الوحيد": ص224-225.

[595] فصوص الحكم، مع شرح عبد الرزاق القاشاني وبالي أفندي (طبعة المكتبة الأزهرية للتراث: القاهرة، 1997): ص321-324.

[596] الفتوحات المكية: ج2ص374س27.

[597] الفتوحات المكية: ج2ص374س11.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!