موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

وحدة وجود


إنّ من أهّم ما انتقد به الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي واتّهم من أجله بالكفر هو ما يُعرف بنظريّة وحدة الوجود وهي النظريّة التي أثارت الكثير من الجدل عبر التاريخ سواء في الإسلام وقبله وغيره من الأديان والفلسفات الأخرى. وعلى الرغم من أن ابن العربي نفسه لم يذكر هذا التعبير مطلقاً في كتاباته، إلاّ أنّه من الواضح جدّاً أنّ هذه الرؤية تسيطر على كتاباته حيث نجد أنّ كتبه مليئة بالأشعار والتعابيرالرَّمزيّة والصريحة أحياناً والتي تنطوي على أفكار تتعلّق بوحدة الوجود بطريقة أو بأخرى. وهذا الكلام ينطبق بشكلٍ خاصّ على كتابه الأخير فصوص الحكم الذي انتُقد على نطاق واسع، وكذلك أيضاً على الفتوحات المكيّة ولو أنّ القليل من الناس خاضوا في غماره ووصلوا إلى أعماقه. وفي الحقيقة فإنّ سوء فهم آراء ابن العربي الغامضة تعود إلى اللغة الرمزية التي يستخدمها عادة عامداً كما وضّح في مقدّمة الفتوحات المكيّة وبعض أعماله الأخرى.[496] ومن جهة أخرى فإنّ الناس المنغمسين في هذا الواقع المضلّل يصعب عليهم كثيراً تصديق الأفكار الثوريّة التي يأتي بها الشيخ الأكبر والتي كثيراً ما تناقض الواقع أو العقيدة للوهلة الأولى، لكنّها لا تلبث أن تنكشف حقائقها الرائعة لمن يتفكّر فيها ويبحث في تفاصيلها.

إنّ القضيّة الوجوديّة الأساسيّة بالنسبة لابن العربي واضحة وبسيطة جدّاً، فكما ذكرنا من قبل ففي العديد من المواضع في كتاباته المختلفة، مثل الباب الطويل 198 من الفتوحات المكية،[497] يصنّف الشيخ محي الدين الأشياء فيما يخص الوجود إلى ثلاثة أقسام هي الحق والخلق والباطل، وذلك وفق آراء ابن سينا نفسها ومدرستهالفلسفية، فيقول في هذا الباب الطويل إنّ الأمر حقٌّ وخلقٌ وإنه وجودٌ محضٌ لم يزل ولا يزال،وإمكانٌ محضٌ لم يزل ولا يزال، وعدمٌ محضٌ لم يزل ولا يزال؛ فالوجود المحض لا يقبلالعدم أزلاً وأبداً، والعدم المحض لا يقبل الوجود أزلاً وأبداً، والإمكان المحض يقبل الوجود لسببٍ ويقبل العدم لسببٍ أزلاً وأبداً. فالوجود المحض هو الله ليس غيره، والعدم المحض هو المُحال وجودُه ليس غيره. والإمكان المحض هو العالَم ليس غيره، ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض؛ فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم، وبما ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود، فمنه ظلمة وهي الطبيعة، ومنه نور وهو النفَس الرَّحماني الذي يعطي الوجود لهذا الممكن. فالعالَم حاملٌ ومحمولٌ؛ فبما هو حاملٌ هو صورةٌ وجسمٌ وفاعلٌ، وبما هو محمولٌ هو روحٌ ومعنىً ومنفعلٌ.[498]

بعد ذلك يوضّح ابن العربي الأنواع المختلفة للخلق طبقاً لهذه الروح المبدَعة أو النور الإلهي الذي يُستعمل في أغلب الأحيان كمرادف للوجود المخلوق. ثمّ بعد ذلك يعطي التحليل الحاسم الذي يوضّح فيه وجهة نظره العميقة بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ عن وحدة الوجود، مستنداً على آيات واضحة من القرآن الكريم. فيقول إنّ الوجود الإمكاني ظهر بين نورٍ وظلمةٍ، وطبيعةٍ[499] وروحٍ، وغيبٍ وشهادةٍ، وسترٍ وكشفٍ؛ فما ولي من جميعما ذكرناه الوجود المحض كان نوراً وروحاً، وما ولي من جميع ما ذكرناه العدم المحضكان ظلمةً وجسماً، وبالمجموع يكون صورة (لها روح وجسد). فإن نظرت العالَم من نفَس الرَّحمن قلت ليس إلا الله وإن نظرت في العالَم من حيث ما هو مسوّىً ومعدّلاً قلت المخلوقات. وهذا مثل قوله تعالى في سورة الأنفال: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾، أي وما رميت من كونك خلقاً إذ رميت من كونك حقّاً ولكنّ الله رمى لأنّه هو الحقّ. فبالنفَس كان العالَم كله متنفِّساً والنفَس أظهره وهو للحقّ باطن وللخلق ظاهر. فباطن الحق ظاهر الخلق وباطن الخلق ظاهر الحق وبالمجموع تحقق الكون، وبترك المجموع قيل حقٌّ وخلقٌ؛ فالحق للوجود المحض والخلق للإمكان المحض، فما ينعدم من العالَم ويذهب من صورته فممّا يلي جانب العدم، وما يبقى منه ولا يصح فيه عدم، فممّا يلي جانب الوجود. ولا يزال الأمران حاكمين على العالَم دائماً، فالخلق جديدٌ في كلّ نفَس دنيا وآخرة (كما سنعود لهذه النقطة بعد قليل) فنفَس الرَّحمن لا يزال متوجّهاً، والطبيعة لا تزال تتكوّن صوراً لهذا النفَس حتى لا يتعطّل الأمر الإلهي إذ لا يصح التعطيل: فصورٌ تحدُث وصورٌ تظهر بحسب الاستعدادات لقبول النفَس. وهذا أبين ما يمكن في إبداع العالَم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.[500]

ولتلخيص هذه النصوص التي ذكرناها أعلاه نقول إنّ العالَم عبارة عن مزيج من نور وظلمة، ولكنة الظلمة هي بكل بساطة لا شيء، لأنّها هي غياب النور. ومن جهة أخرى فإنّ النور في النهاية هو التجليّات الإلهية للحق تعالى وهو الذي قال في سورة النور: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)﴾؛ فالنور هو حقيقة واحدة ولكنّه يظهر بصورٍ مختلفة فتظهر الكثرة كمزيج بين النور والظلمة، أي بين نور الوجود وظلمة العدم. فيظهر هذا النور بشكلٍ أمثلَ في الإنسان الكامل ثم بدرجاتٍ أقلَّ كلّما نزلنا إلى المخلوقات الدنيوية الأخرى، وتحدث هذه التجليّات من خلال العقل الأوّل كما قلنا من قبل وكما سنوضّح بمزيد من التفصيل لاحقاً. لذلك فليس في الوجود الحقيقيّ غيرُ الله تعالى وهذا العقل الأوّل الذي هو رسول الله؛ أرسله ليُخرج الناس من الظُّلمات إلى النور، أي من ظلمة العدم إلى نور الوجود. فالوجودُ كلُّه خيرٌ ليس فيه شرٌّ البتة، لكنّ الشرّ هو غياب الخير كما أنّ الظلمة هي غياب النور، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث عندما سأله جابر بن عبد الله رضي الله عنه: عن أوّل شيء خلقه الله قبل الأشياء، فقال: يا جابر، إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقُدرة حيث شاء الله، ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ ولا جنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا جِنِّيٌ ولا إنسيٌّ، فلمّا أراد الله أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأوّل القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، إلى آخر الحديث.[501]

فهذا هو المبدأ الأساسي عند ابن العربي، ولكن لكي نفهم تفاصيله نحتاج أن نشرح كيف يتمّ مزج هذا النور الإلهي بالظلمة، أو كيف تظهر هذه التجليّات الإلهية الجزئيّة في العالَم، وهو من جديد يحملنا للبحث عن ماهيّة الزّمن.

ولكن رغم أنّ الأمر يبدو بسيطاً إلاّ إنّه من السهل إساءة فهم مثل هذا الكلام والخلط بين الحقّ والخلق كما يفعل الكثيرون ممن يتكلّمون عن وحدة الوجود. ولهذا السبب كما رأينا أعلاه فقد اعتمد ابن العربي في كثيرٍ من الأحيان لغةً رمزيةً وكذلك فرّق كلامه عن وحدة الوجود على جميع أنحاء كتبه الكثيرة ولم يذكرهفي مكانٍ واحدٍ كما أنّه لم يذكر هذا الاصطلاح نفسه مطلقاً، وكل ذلك حتى لا يُساءفهمه حين يتداول بعض الناس ممن ليس لهم القدرة على الخوض في هذه الأمور حين يتداولون طرفاً من الحديث ويُفيضون فيه من تأويلاتها وأفكارهم. فلذلك يقول ابن العربي إنّه قصد تفريق هذا المستوى العالي من العقيدة في كتاب الفتوحات المكية ولم يضعها في مكان واحد حتى لا يصل إليها كلّ واحد، وأمّا من رزقه الله الفهم فيها فإنّه يعرف أمرها ويميّزها من غيرها فإنّه العلم الحقّ والقول الصدق وليس وراءها مرمى ويستوي فيها البصير والأعمى، تُلحق الأباعد بالأداني وتَلحم الأسافل بالأعالي، والله الموفق لا رب غيره.[502]

ولكن لا بدّ من الإشارة أيضاً أنّ ابن العربي يذهب أبعد من ذلك بكثير أيضاً حين يقول إنّ العقل الأوّل، وبالتالي جميع ما في الوجود، رغم أنّه مخلوق لله، ولكنّه أيضاً ليس غير الله، لأنّه في النهاية ليس هناك وجودٌ فعليٌّ مطلقٌ إلاّ لله سبحانه وتعالى،[503] أمّا العالَم فهو موجودٌ به وليس مستقلاً عنه. ولقد لخّص ذلك الباحث وليام جيتيك حين قال إنّه لو سألنا ابن العربي هذا السؤال: هل الأشياء هي الله ؟ فسيكون جوابه: "نعم ولا" (وذلك مثل جوابه لابن رشد كما ذكرنا في قصّة لقائهما التي رويناها في بداية هذا الفصل أعلاه)، وبمعنى آخر، وبنفس التعبير الذي استخدمه ابن العربي، أنّ الأشياء "لا هي هو ولا هي غيره"،[504] أو "هو لا هو"،[505] لأنّه لو قلنا نعم هي الله فهذا يعني أنّنا نحصر الله تعالى في الأجسام سبحانه وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، ولو قلنا لا ليست هي الله لكانت الطامّة أكبر لأنّ ذلك يستدعي القبول بوجودٍ آخرَ غير الله وهو الإشراك بعينه. لذلك فالحقيقة النهائيّة هي في الجمع بين الطرفين بمعنى أنّ هذه الأشياء التي نراها وكُلَّ شيء في الوجود ليست هي الله تعالى من حيث شكلها وصورتها ولكنّها ليست غيره من حيث باطنها وروحها لأنّه لا يمكن أن يكون لها وجودٌ مستقلٌّ حقيقيٌّ مطلقٌ، بل وجودٌ قائمٌ بالله تعالى والله وحده هو القيّوم. إنّ هذه الحقيقة بالنسبة لابن العربي، هي في النهاية سرّ الإخلاص الذي هو أيضاً سرّ القدَر الذي يفرّق بين الحقّ والخلق، ولقد أخفى الله تعالى هذا السرّ عن أكثر الناس.[506]

ثم يتابع وليام جيتيك بتوضيح أنّ كلّ شيء في العالَم بالنسبة إلى ابن العربي هو اسم إلهي لله تعالى؛ أو بالأحرى الأشياء هي تجليّات الأسماء الإلهية. فانطلاقاً من الآية الكريمة في سورة فاطر: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)﴾ وبما أنّنا نحن مفتقرون عادة إلى جميع الأشياء حولَنا، يستنتج ابن العربي أنّ هذه الأشياء ليست غير الله فهي من أسمائه،[507] كما أشرنا إلى ذلك عند الحديث عن الأسماء الإلهية أعلاه. ولكن من جديد نحن لا نستطيع القول بأنّ هذه الأسباب الثانوية التي نفتقر إليها هي نفسها الله تعالى، ولكن في روحها وباطنها ليست غيره. وبالطبع فإنّ من يسمع مثل هذه التعبيرات سيفكّر تلقائياً أنّنا نعني الشكل المعيّن أو صورة الأجسام المخلوقة التي هي الأسباب التي نفتقر إليها، لذلك نحن لا نستطيع التوقّف في الجواب بالقول أنّ الأشياء ليست غير الله كما فعل بعض شعراء الصوفية فعبّروا عن ذلك ببعض الأبيات الشعرية التي كثيراً ما يُساء فهمها.

فابن العربي يوضّح هذه الأسس الوجودية على نطاق واسع في فصوص الحكم وخاصة في الفص الثالث في كلمة نوح، ولكن أيضاً في العديد من المواضع في كافة أنحاء الفتوحات المكية.[508]

وبطريقةٍ مماثلة، فإنّ ابن العربي يصف العالَم وكلّ الخلق في أغلب الأحيان كنوع من المرآة التي تنعكس فيها صورة[509] الله تعالى؛[510] فإذا نظر شخص ما إلى العالَم من الجانب الحقيقي للوجود سيرى صورة الحق، أي الله سبحانه وتعالى، من غير تجسيم ولا تشبيه ولكن مجموعة الصفات والأسماء الحسنى وتجليّاتها. وكذلك لو افترضنا أنّنا نظرنا من جانب العدم في هذه المرآة لما رأينا فيها غير صورة العدم؛ وهكذا فالخلق هو في الحقيقة برزخ بين الوجود الحقّ والعدم المحض وفيها يمتزجان كما يمتزج النور والظلمة. فيقول ابن العربي إنّ هذا البرزخ الذي هو الممكن بين الوجود والعدم سبب نسبة الثبوت إليه مع نسبة العدم هو مقابلته للأمرين بذاته، وذلك أن العدم المطلق قام للوجود المطلق كالمرآة فرأى الوجود فيه صورته فكانت تلك الصورة عين الممكن فلهذا كان للممكن عينٌ ثابتة وشيئيّة في حال عدمه، ولهذا خرج على صورة الوجود المطلق، ولهذا أيضاً اتّصف بعدم التناهي فقيل فيه إنه لا يتناهي. وكان أيضاً الوجود المطلق كالمرآة للعدم المطلق فرأى العدم المطلق في مرآة الحقّ نفسه فكانت صورتهالتي رأى في هذه المرآة هو عين العدم الذي اتصف به هذا الممكن وهو موصوف بأنه لا يتناهىكما أن العدم المطلق لا يتناهى. فاتّصف الممكن بأنه معدوم، فهو كالصورة الظاهرة بين الرائي والمرآة "لا هي عين الرائي ولا غيره"، فالممكن ما هو من حيث ثبوته عين الحق ولا غيره ولا هو من حيث عدمه عين المحال ولا غيره؛ فكأنّه أمرٌ إضافيّ، ولهذا نزعت طائفة إلى نفي الممكن وقالت ما ثم إلا واجبٌ أو محالٌ ولم يتعقّل لها الإمكان، فالممكنات على ما قرّرناه أعيانٌ ثابتة من تجلّي الحقّ معدومة من تجلّي العدم. ومن هذه الحضرة علم الحقّ نفسَه فعَلِم العالَم، وعِلمه له بنفْسه أزلاً فإنّ التجلي أزلاً، وتعلُّق علمِه بالعالَم أزلاً على ما يكون العالَم عليه أبداً مما ليس حالُه الوجود لا يزيد الحقّ به علماً ولا يستفيد ولا رؤية تعالى الله عن الزيادة في نفسه والاستفادة.[511]

ثم يقول الشيخ محي الدين أيضاً في الفتوحات المكيّة إنّه لو كان للعدم لسان لقال إنك على صورته فإنه لا يرى منك إلا ظلَّه، كما كان للوجود كلام فقال إنك على صورته،[512] فإنّه رأى فيك صورته.[513]

لذلك فإنّ العالَم ليس له وجود حقيقي ذاتي ثابت ومستقل عن وجود الله تعالى، لأنّ الله تعالى هو الواحد الأحد الذي يتّصف بالوجود الذاتي؛ وفي نفس الوقت إنّ العالَم ليس في عدمٍ ثابتٍ وإلاّ فلن يكون هناك هذا العالَم الذي نعيش فيه. بدلاً من ذلك فإنّ العالَم يتقلّب بشكلٍ دائم بين الوجود والعدم، في كلّ لحظة من الخلق، أيّ في كلّ يومٍ من أيّام الشأن الإلهية. وفي الحقيقة إنّ ابن العربي يشير إلى هذا المعنى الذي أشار له القرآن الكريم بشكل رمزي بالنهار والليل أي الوجود والعدم: فعندما يقابل العقل الأوّل (أي رسول الله) العالَم فهذا هو نهارٌ بالنسبة لنا ونكون في وجود، أمّا عندما يقابل هذا العقل ربّه نكون نحن في فناء أي عدمٍ وهو المعنى الحقيقي للَّيل؛ لكن طبعاً نحن نتكلّم هنا عن النهار والليل من الأيّام الأصليّة الإلهيّة أي من كلّ لحظة من لحظات الزّمن الذي نشهده.[514] وهذا الوصف يعني أنّ كلَّ شيءٍ في العالَم يأتي إلى الوجود ثم ينعدم تلقائياً في كلّ لحظة وهو ما سنشرحه في الفقرة القادمة عن مبدأ الخلق الجديد. وكذلك فإنّ هذا يعني أنّ العالَم يأتي إلى الوجود بشكلٍ تسلسلي كما أشرنا من قبل في الفصل الثاني؛ فليس هناك في الزّمن الواحد (أي في كلّ يوم شأن إلهي) إلاّ وجودٌ واحدٌ ولكنّ الكثرة تأتي من تكرار هذه الأيّام الإلهية التي يكون الله تعالى فيها كلَّ يومٍ هو في شأن. ومن هنا نجد المعنى الحقيقي للمقولة الفلسفية أنّه لا يصدر عن الواحد إلاّ واحد في كلّ وقت، بعد أن عدّلناها وفق رؤية ابن العربي.

من جهة أخرى يجب أن نذكّر هنا ما شرحناه في الفصل الأوّل أنّ هذا العقل الأوّل أو الحقيقة المحمّديّة ما هو إلاّ واحد من مجموعة من الأرواح المهيَّمة في ذات الله تعالى ولكنّ الله اختاره ليخلق به هذا العالَم، وبالتالي هناك في الحقيقة تعدّد وكثرة حتى على هذا المستوى العالي من الوجود، وليس هناك وحدة وجود. ولكن يمكن أن نعود ونطبق نفس الجواب الذي يقوله ابن العربي على سؤال وليام جيتيك الافتراضي أنّ هذه الأشياء ليست هي الله وليست هي غيره؛ وبالتالي في النهاية ليس هناك وجودٌ حقيقيٌّ إلاّ لله تعالى، وهذا هو المعنى النهائي لوحدة الوجود. على كلّ حال إنّ موضوع وحدة الوجود يحتاج إلى شروحات وتفاصيل أكثر من ذلك بكثير، وإن شاء الله تعالى سوف نخصّص لذلك كتاباً في المستقبل القريب.

في الحقيقة نحن لخّصنا هذه الفقرة عن وحدة الوجود في الفصل الثاني عندما تكلّمنا عن أصل العالَم في الزّمن فقلنا في نهاية تلك الفقرة أنّ الزّمن معرَّفٌ بالحركة، والحركة معرَّفة بالمواقع المختلفة للجواهر الصورية والتي هي عبارة عن صورٍ مختلفةٍ للجوهر الفرد أي العقل الأوّل وهو الوحيد الذي يتّصف بالوجود الحقيقي، لكنّ وجوده بالله وليس بنفسه، أمّا وجود الله تعالى فهو وجود قائم بنفسه. فهذا الجوهر الفرد هو في الحقيقة رسول الله (بالمعنى العام، وليس بمعنى الرسالة التي هي الشريعة الإسلامية مثلاً)، وقد أرسله الله تعالى لنا نحن الأعيان الثابتة في العدم ليخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود كما قال الله تعالى في سورة الحديد: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (9)﴾، وقال في بداية سورة إبراهيم: ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)﴾.

فالكتاب الذي أنزله الله تعالى إلى رسوله هو كلام الله تعالى وقد أنزله من رحمته ليخرج الناس من ظلمات العدم إلى نور الوجود لأنّه تعالى أحبَّ أن يُعرف فخلق الخلق وتعرَّف إليهم. فالكتاب مؤّلفٌ من جُمل، والجمل من كلمات، والكلمات من حروف، والحروف تعود في النهاية إلى حرف الألف الذي هو أساس خروج النفَس ثم يتشكّل بحسب المخارج. وسوف نرى في الفصل السابع والأخير مدى توافق هذا الكلام مع نظريّة الأوتار الفائقة.


[496] كما أوضحنا في مقدمة كتاب "شمس المغرب" فإنّ ابن العربي قسم العقيدة على أربعة مستويات متكاملة أولاها العقيدة العامّة التي يجب على كلّ المسلمين إتّباعها وخلاصتها أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. والمرتبة الثانية تتضمن مآخذ الأدلة في الفلسفة الإسلامية. والمرتبة الثالثة هي عقيدة المحققين أهل الكشف والوجود. وقد ذكر الشيخ محي الدين هذه المستويات من العقيدة الإسلامية في كتبه المختلفة، وأما المرتبة الرابعة فهي عقيدة الخلاصة الذين هم خلاصة خواص أهل الله تعالى، فما أفردها الشيخ الأكبر على التعيين ولم يصرّح بها، لما فيها من الغموض، ولكن جاء بها مبدّدة في أبواب الفتوحات المكية مستوفاةً مبيّنةً، لكنها كما يقول متفرّقة؛ فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها ويميزها من غيرها، فإنها، كما يقول الشيخ الأكبر، العِلم الحقّ والقول الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تلحق الأباعد بالأداني، وتلحم الأسافل بالأعالي، فالأمر كلّه دوري، ونهاية الدائرة متصلة ببدايتها. راجع شمس المغرب: ص16.

[497] الفتوحات المكية: ج2ص390-478.

[498] الفتوحات المكية: ج2ص426س26.

[499] لقد ذكرنا في الفصل الأوّل (التعليق على الشكل 1) أن مرتبة الطبيعة موجودة قبل الخلق الفعلي للأجسام.

[500] الفتوحات المكية: ج2ص427س17.

[501] رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله، انظر في كشف الخفاء، للإمام العجلوني: حديث رقم 827.

[502] الفتوحات المكية: ج1ص3825.

[503] الفتوحات المكية: ج1ص194س8.

[504] الفتوحات المكية: ج1ص4221, ج1ص204س12, ج1ص284س32, ج1ص680س7, ج3ص275س32, ج4ص466, ج4ص129س31, ج4ص228س12, ج4ص236س15.

[505] الفتوحات المكية: ج2ص168س23, ج2ص343س28, ج2ص379س9, ج2ص444س16, ج2ص501س4, ج3ص343س23, ج3ص471س13.

[506] الفتوحات المكية: ج3ص182س11.

[507] الفتوحات المكية: ج1ص288س16.

[508] انظر مثلاً الفتوحات المكية: ج1ص9017، وكذلك الإشارات الشاملة المقتبسة في الفقرات السابقة.

[509] طبعاً ليس المقصود بالصورة هنا الشكل، فكما قلنا ليس الله تعالى مثل الأجسام، ولكنّ الصورة هي مجموع تجليّات الأسماء الحسنى؛ ولذلك ورد في الحديث الذي ذكرنا من قبل كثيراً أنّ الله خلق آدم على صورته، وفي حديث آخر على صورة الرَّحمن.

[510] الفتوحات المكية: ج4ص430س1.

[511] الفتوحات المكية: ج3ص4732.

[512] كما ورد في الأحاديث، انظر كنز العمّال: حديث رقم 1141-1150، و15129.

[513] الفتوحات المكية: ج4ص154س23.

[514] الفتوحات المكية: ج2ص303-304.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!