موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

الزّمن الدائري والزّمن الدوري


يقول ابن العربي في ديوانه الكبير:[195]

أتاك الشتاء عُقَيب الخريفْ
ودار الزّمان بأبنائه
سرى في الجسوم بأحكامه
عجبتُ لهم جهلوا قدره
فأصبح كالماء في قدره

وجاء الربيع يليه المصيفْ
فمن دوره كان دورُ الرغيفْ
تغذّى اللطيف به والكثيفْ
ويسعى القويّ له والضعيفْ
لديهم وفي الماء سرٌّ لطيفْ

بالإضافة إلى الخواص الأساسية التي ذكرناها أعلاه للزّمن كما يراه ابن العربي من كونه وهميّ ونسبيّ وكمّيّ فإنّه يؤكّد أيضاً أنّه دائريّ ودوريّ،[196] بمعنى أنّه ليس له في حدّ ذاته بِداية أَو نهاية، لكنّنا عندما نُحدّدُ نقطةً على هذه الدائرة (وهي نقطة الزّمن الحاضر، وهي الآن) ونَنظرُ في اتّجاهٍ معيّنٍ، سواء إلى الماضي أَو إلى المستقبلِ، فإنّنا نَتصوّر له بِداية ونهاية؛ لذلك فإن الزّمن الحاضر (الآن) يربط بداية الزّمن مع نهايته في دائرة واحدة.[197]

قد يبدو هذا الكلام صعباً جدّاً على الخيال تماماً كما كان من الصّعبِ جدّاً إقناع الناسِ أنّ الأرض كرويّة حين قُدّمت هذه الفكرة لأوّل مرّة، وذلك لأنّ أكثر نشاطاتنا اليوميّة تتمّ فقط في جزءٍ صغيرٍ مِن سطحِ الأرض الذي يَظهرُ لنا مسطّحاً ومستوياً رغم ما فيه من تضاريس. يضاف إلى ذلك أنّ المشكلة مع الزّمان أكثر صعوبة من مسألة كروّيّة الأرض لأنّه في حالة الأرض كان من السّهلِ نسبيّاً إثبات كرويّتها حينما نَنظر إليها مثلاً مِن الفضاءِ أو مِن ارتفاعٍ كافٍ أو بإعمال العقل والتفكّر قليلا في بعض الظواهر مثل تحدّب سطح البحر مثلاً، لكنّ المشكلةَ في الزّمن أنّنا يُمكِننا عادة أَن نَشهد منه الزّمن الحاضرَ فقط، وليس المستقبل ولا الماضي حيث يُمكِننا فقط أَن نَتخيّلُهما، وحتّى مع تخيّل الماضي والمستقبل فإنّ ذلك لا يفيد كثيراً في هذا الخصوص وذلك لصغر عمرنا وكوننا غير معتادين على التعامل مع أحقاب زمنيّة طويلة حيث يبدأ يظهر معها المعنى الحقيقي لدائريّة الزّمن. من أجل ذلك، لكي نفهم معنى الزّمن الدائري يجِب علينا أَن نَتخيّلَ الوجود كلّه (ماضٍ وحاضراً ومستقبلاً) في نفس الوقت؛ عندئذٍ يكون هذا الوجود الكامل مثل الدائرة ليس له بِدايةٌ أَو نهايةٌ عندما نَنظرُ إليه من الخارج؛ فقط عندما نَكون على نقطة ما من محيطِ دائرةِ الزّمن هذه، وهي الدّهر كلّه، ونَنظرُ في اتّجاهِ المستقبل فسوف نتخيّل وجود بدايةٍ في الماضي هي الأزل ونهايةٍ في المستقبل هي الأبد.[198]

من جهة أخرى فإنّ الزّمن الدائري له معنىً مهمّ آخر لا يمكن شرحه بشكلٍ كاملٍ هنا لأن ذلك يَستدعي أفكاراً أخرى إضافية سوف نُناقشها في الفصول التالية، لكننا سنشير إلى ذلك سريعاً هنا وهو أنّ ابن العربي يؤكّد أنّ العالَم يُعاد خلقُه بشكل مستمر في كلّ آنٍ كما أشرنا إلى ذلك مراراً أعلاه؛ وكما رأينا أيضاً أنّ الزّمن في الحقيقة هو الزّمن الحاضر فقط لأن الماضي والمستقبل مجرّد خيال؛ لذلك فإنّ الزّمن، أي الزّمن الحاضر، يدور في حركة دائرية متكرّرة مع إعادة خلق العالَم؛ أي أنّ لحظة الحاضر تسافر حول العالَم بشكلٍ مستمرٍّ مراراً وتكراراً لخلقه وإعادته مرّة بعد مرّة بشكلٍ دائريٍّ (ودوريّ).

من جهة أخرى فإنّ مفهوم الزّمن الدائري يختلف تماماً عن مفهوم الزّمن الدوري وهما مفهومان قد يتداخلان كثيراً في كتب ابن العربي وقد يسهل الخلط بينهما. فالزّمن الدوري، مثل اليوم والأسبوع والشهر والسنة، هو مدّة متكرّرة من الزّمن يحدث فيها نفس نوع الأحداث التي تحدث عادة في الدورات المتكرّرة المختلفة من الزّمن؛ فعلى سبيل المثال، تطلع الشمس في كلّ صباحٍ ليبدأ يوم جديد، والقمر يولد تقريباً كلّ أربعة أسابيع ليبدأ شهر قمري جديد. لكن يجب أن نلاحظ هنا أنّ ابن العربي يؤكّد في الواقع أنّه لا تكرار في الوجود وإنّما هناك تشابه في الأحداث وليس تطابقاً،[199] فهذه الدورات الطبيعية من الزّمن متشابهة فيما بينها وليست متطابقة، وبالتالي فهذا يختلف قليلا عن مفهوم الدَّور في الفيزياء والذي يعني تكرار نفس الحالة بين الأدوار المختلفة.

فإذا قبلنا بتقريب التشابه بين الدورات الزّمنية فهناك أدوار مختلفة بالإضافة إلى الأدوار المعتادة كاليوم والشهر والسنة حيث يعدّ ابن العربي أنّ لكلّ فلك أو اسم إلهي دور زمني في العالَم، يسمى يوماً، وسوف نرى بعض هذه الأيّام أدناه.

فيقول ابن العربي إنّ أصل السبب في وجود هذه الدورات المختلفة للزمن هو أنّ كلَّ فلك أو اسم إلهيّ له مدّة تأثير في العالَم ثم تنتهي ليبدأ اسم آخر وهكذا بشكلٍ دوري، ولكن سبب عدم وجود التطابق التام بين هذه الأدوار يعود للتداخل الحاصل بين الدورات المختلفة وتأثير الأسماء المختلفة في نفس الوقت.[200] فمثلاً يقول ابن العربي في شرحه لأصل وجود أيّام الأسبوع إنّ يوم الأحد وُجدت حركته عن صفة السمع، ويوم الاثنين وُجدت حركته عن صفة الحياة، ويوم الثلاثاء وجدت حركته عن صفة البصر، ويوم الأربعاء وجدت حركته عن صفة الإرادة، ويوم الخميس وجدت حركته عن صفة القدرة، ويوم الجمعة وجدت حركته عن صفة العلم، ويوم السبت وجدت حركته عن صفة الكلام، فظهر العالَمُ حيّاً سميعاً بصيراً عالِماً مُريداً قادراً متكلّماً.[201] ولذلك فإنّ دورة يوم الأحد تختلف عن دورة يوم الاثنين مع أنّ كليهما يوم تطلع فيه الشمس وتغيب بنفس الشكل تقريباً. وكذلك فإن يوم الأحد من هذا الأسبوع ليس مثل يوم الأحد من الأسبوع الذي يليه رغم كونهما نشآ عن نفس الصفة الإلهية، وذلك لكونهما يقعان في جزء مختلف من الشهر أو السنة التي يحكمها اسمٌ إلهيٌّ آخر. فالدورات تنشأ من حكم الأسماء الإلهية والاختلاف بينها ينشأ من التداخل بين هذه الأسماء وتأثيراتها المشتركة التي تقع في نفس الوقت. ففي الحقيقة ليس هناك أي تكرارٍ في الوجود، كما سنعود لهذه الفكرة مراراً في الفصول القادمة.

ويلخّص ابن العربي ذلك بشكلٍ جميل في دعائه حيث يقول في الصلوات الفيضية في وصفه للنبي محمد صلى الله عليه وسلّم أنّه هو هيولى الصور التي لا تتجلى بإِحداها مرة لاثنين، ولا بصورةٍ منها لأَحدٍ مرّتين.[202] ونذكّر هنا أنّ من الأسماء الأخرى الجوهر الفرد بالإضافة إلى العقل الأوّل والقلم الأعلى والإنسان الكامل التي ذكرناها أعلاه، هو في الحقيقة المحمّديّة فهو روح سيدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو النور الذي خلق الله منه كلّ خير كما ورد في الحديث الشريف.[203]

وهنا قد يبدو لنا وجود بعض الربط بين هذه الدورات الزّمنية وعلم التنجيم؛ فإنّ المعرفة الدقيقة لأيّام هذه الدورات وخصائصها قد تعطينا فكرة عمّا يمكن أن يحدث في المستقبل، غير أنّ ذلك لا يمكن أن يكون علماً قطعيّاً وإنما أشبه ما يكون بعلم الأرصاد الجويّة حيث إنّنا عندما ندرس العوامل المختلفة المؤثّرة على الطقس يمكننا توقّع حالة الطقس في المستقبل القريب وبدرجة جيّدة من الدقة، ولكن لا يمكننا أبداً القطع فيما يمكن أن يحدث فعلياً.


[195] ديوان ابن العربي، تحقيق أحمد بسج (دار الكتب العلميّة: بيروت، 1996): ص260.

[196] الفتوحات المكية: ج1ص387س33.

[197] الفتوحات المكية: ج1ص387.32، ج3ص546س30.

[198] الفتوحات المكية: ج4ص266س3.

[199] الفتوحات المكية: ج2ص432س12، ج3ص282س21.

[200] الفتوحات المكية: ج3ص201س14.

[201] الفتوحات المكية: ج2ص438س9.

[202] الصلوات الفيضية، وكذلك في الفتوحات المكية: ج6ص79س.7، ج2ص7727، ج2ص616س3.

[203] رواه عبد الرزاق بسنده عن جابر بن عبد الله في حديث طويل، انظر في كشف الخفاء: حديث رقم 827.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!