موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

الطبيعة المنفصلة للزمن


إنّ من أكثر الأفكار أهميةً في مفهوم ابن العربي للزمن أنّه يعدّه كمية منفصلة وأن أصغر حدٍّ فيه هو اليوم نفسه حيث إنّه كثيراً ما يتحدّث في الفتوحات المكيّة وكتبه الأخرى عن الزّمن أو اليوم الأصغرِ الذي لا يقبلُ القسمة.[181] فعلى الرغم من أننا نعيش في اليوم ونقسمه إلى ساعاتٍ ودقائقَ وثوانٍ وأقلَّ من ذلك بكثير، إلاّ أنّ كلّ ذلك اصطلاحي وفي الحقيقة ليس هناك زمنٌ أصغر من اليوم الذي هو أربع وعشرون ساعة. هذه الفكرة الغريبة كفيلة بصدّ الكثيرين من المهتمّين بالزّمن وحملهم على العزوف عن متابعة البحث في مفهوم الشيخ محي الدين للزّمن خاصة وأنه لم يذكر ذلك بشكل واضح في أي مكان محدّد من كتبه الكثيرة والطويلة ولكنّه نثرها بين السطور، وربما كان هذا أيضاً أحد الأسباب أننا لا نجد أحداً من العلماء والباحثين قد تطرّق من قبل إلى دراسة مفهوم الزّمن عند ابن العربي، إضافة إلى الأسباب التي ذكرناها في المقدمة.

كما نوّهنا في الفصل الأوّل من هذا الكتاب فلقد كان هناك الكثير من الجدل والنِقاش في تاريخ الفلسفة والعلمِ الحديث بخصوص الزّمان (وكذلك المكان) فيما إذا كان كمّيّة منفصلة أو كمّيّة متّصلة، رغم إنّ أكثر الفلاسفةِ والعلماءِ يتعاملون مع الزّمن ككمّيّة متّصلة قابلة للقسمة بشكل لا نهائي.[182] غير أنّ علماء الكلام الأشعرية يبنون جميع استنتاجاتهم على أساس البنية الذرّيّة للعالم بما فيه الزّمان والمكان، وابن العربي يعترف لهم في ذلك الفهم العميق للعالم. على سبيل المثال فقد اقترح الباقلاني، وهو أحد علماءِ الكلام الأشعريين المشهورين، طبيعةً ذرّيّةً للزمن بحيث يكون له حدّ أصغر يُخلق فيه العالَم ثم يفنى من جديد. هذا المنظور يتّفق إلى حدّ بعيد مع رؤية ابن العربي للزّمن والخلق الجديد الذي سوف نشرحه في الفصل السادس.

فقد تبنى إذاً الشيخ الأكبر هذه الرؤية الذرّيّة ولكنّه يضيف أنّ أصغر حدّ في الزّمن هو اليوم نفسه الذي يساوي عندنا أربعاً وعشرين ساعةً اصطلاحاً.[183] ليس من السّهلِ علينا إزالة مثل هذا التناقض بين هذه الفرضيّة الغيبيّة وشعورنا العام من خلال خبرتنا اليوميّة العميقة في إمكانيّة تقسيم الزّمن إلى ساعات ودقائق وثواني وأقلَّ من ذلك بكثير. لكن ابن العربي يعطي شروحات مقنعة عن ضرورة كون الزّمن كمّيّة منفصلة وكون اليوم هو أصغر حدّ فيها، ولكننا سوف نترك تفصيل هذه القضية الصعبة إلى الفصل الرابع وسوف نعطي هنا فقط شرحاً مبسطاً عنها.

لقد رأينا من قبل في هذا الفصل أعلاه أن ابن العربي يصرّح بأن الزّمان شيء وهمي وكذلك المكان بل وحتى الحركة، وإنما الوجود الحقيقي هو للمتحرّك نفسه وهو في الحقيقة جوهر فرد واحد لا يتكثّر ولا يتجزّأ وكل ما في العالَم إنما هو صور مختلفة لهذا الجوهر. واعتماداً على مبدأ الخلق الجديد الذي نوّهنا عنه أعلاه،[184] فإنّ هذا الجوهر يُظهر العالَم في صورة معيّنة ثم يعيد إظهاره في صور أخرى متشابهة مع بعض الفروقات مما يوهمنا بوجود كثرة ووجود حركة في المكان والزّمان. وبالتالي فإنّ الله تعالى يخلق العالَم بواسطة هذا الجوهر الفرد في كلّ يوم ثم يعيده من جديد. فالجوهر الفرد يستغرق يوماً كاملاً حتى يشكّل العالَم ولكنّ كل جزء في العالَم لا يدرك من هذا اليوم سوى لحظة واحدة هي وقت خلقه، وبالتالي لا يوجد في القياس الحقيقي للزمن واحدة أقل من اليوم وإنما نحن ندرك هذا اليوم (وهو في الحقيقة أسبوعٌ حين نأخذه كزمان ومكان كما سنوضّح في الفصل الثالث) كلحظة لكوننا ثابتين في مكانٍ معيّن ولا نمضي مع الجوهر الفرد الذي يقوم بعملية الخلق الفعلي للعالَم. ويذكّرنا ابن العربي أنّ في كلّ لحظة عندنا هناك يومٌ كاملٌ على الأرض أو في العالَم، حيث إنّه في الوقت الذي يكون فيه صباحٌ في مكان ما، يكون فيه مساءٌ في مكان آخر وظُهرٌ في مكان ثالث وهكذا فإنّ كلّ لحظة هي يوم كامل ولا يوجد زمن أقل من اليوم.[185]

يعتمد ابن العربي على الآية 29 من سورة الرَّحمن في قوله تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾، للوصول إلى هذه النتيجة التي بسّطناها أعلاه حيث يُعدّ قول الله تعالى أنّه كلَّ يوم هو في شأن بمعنى أنّ هذا اليوم لا يمكن أن يتجزّأ لأّنه لا يحدث فيه سوى شأن واحد أي صورة واحدة من صور الخلق.[186] ومن هنا واعتماداً على هذه الآية فإن ابن العربي يدعو هذا اليوم الأصغر الذي يخلق الله فيه العالَم في صورة معيّنة بيوم الشأن،[187] وكذلك اليوم الفرد أو الزّمن الفرد.[188]

فإذاً إنّ كلّ لحظة من حياتنا هي في الحقيقة يومٌ كاملٌ (بل أسبوعٌ يخلق الله تعالى فيه العالَم في ستة أيّام ثم يستوي على العرش!)، وبالتالي إنّ الزّمن الحقيقي الذي تتمّ فيه عملية الخلق ليس هو نفسه الزّمن الذي نشهده وهناك علاقة وطيدة بينهما ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم أيضاً حيث ذكر أنّه سبحانه وتعالى يسلخ الليل من النهار وكذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وسوف نخصّص الفصل الرابع لدراسة هذه العلاقة بين الأيّام المشهودة والأيّام الأصلية.

كما ذكرنا أعلاه، فإن فكرة الزّمان المنفصل (وكذلك المكان) لَيست جديدة في تاريخِ الفلسفة والفيزياء ولكن النجاح الباهر لنظريّة نيون في الجاذبية التي تعتبر الزّمن كمّيّة خطّيّة مستمرّة وما تلاه من تطوّر كبير في علم الميكانيكا النيوتونية الكلاسيكية أدّى إلى التركيز على الطبيعة المتّصلة للزّمن رغم معارضة بعض الفلاسفة أمثال كانْت ولايبنتز. ورغم تقدّم النظريّة النسبيّة ومن بعدها ميكانيكالكمّ لا يزال العلماء يعاملون الزّمن ككميّة متّصلة يمكن تقسيمها بلا نهاية، لأنّ ذلك هو الواقع الملموس وتؤيّده جميع هذه النظريّات حينما نطبقّها على المستوى فوق الذرّي.

ولكنّ هذه الرؤية القاصرة أدّت إلى الكثير من التناقضات وعجزت عن تفسير الكثير من الحوادث الذرّيّة والتفاعلات التي تحدث بين الجسيمات الأوّليّة كما عجزت عن تفسير أصل العالَم وبنيته الأوّلية؛ ممّا دعا العلماء إلى التفكير من جديد بالزّمن المنفصل فبدأت تظهر نظريّات مختلفة على هذا الأساس مثل نظريّة الشبكات (Lattice Theory) وعلم الكون الكمّي (Quantum Cosmology) كما ذكرنا في الفصل الأوّل.[189] ولكنّ ذلك لم ينجح أيضاً حتى الآن، ربّما لأننا لم نصل بعدُ إلى الطريقة الصحيحة لتكميم الزّمن. والمشكلة هي أنّ العقل الإنساني لا يستطيع أن يفكّر بالمادّة بشكل آخر غير كونها إمّا منفصلة أو متصلة؛ ليس هناك طريق آخر.

وفي الحقيقة فإنّ الزّمن ليس كميّة منفصلة ولا كمّية متّصلة لأنّه في الحقيقة وهمي كما ذكرنا أعلاه، وبالتالي فعندما نتكلّم عن تكميم الزّمن يجب أن نعلم عن أي زمن نتكلم، إنما نتكلّم عن مفهومنا للزمن وإدراكنا له؛ فعندما نقيس الزّمن على المستوى المادّي الملموس نجد أنه كميّة متّصلة ولكن عندما نفكّر في آليّة الخلق وعلى المستوى الذرّي فإنّه كميّة منفصلة، والحقيقة هي أنّه لا هذا ولا ذاك!

ومن هنا نجد أنّ مفهومنا للزمن لا بدّ أن يقودنا إلى متناقضات لا يمكن حلّها إلاّ على أساس مفهوم ابن العربي للخلق وهو ما يُشار إليه بوحدة الوجود التي سنناقشها في الفصل الخامس. ولكنّنا نذكّر هنا أنّ مفهوم الاتّصال والانفصال ينشأ بالضرورة عندما نتكلّم عن ذوات الأجسام التي تتكثّر وتتجزّأ، في حين أنّ الوجود الفعلي هو للجوهر الفرد فقط، وتبقى المشكلة هي كيفيّة الربط بين وحدة وأحديّة هذا الجوهر الفرد وبين الكثرة الملحوظة في العالَم الذي نعيش فيه. وهنا بالتحديد تأتي أهميّة رؤية الشيخ محي الدين لأنه استطاع بناء هذا الرّبط بشكلٍ علمي مقنع رغم إنّه غريب وبعيدٌ عن الواقع الملموس.


[181] الفتوحات المكية: ج2ص384س31.

[182] انظر في:

MacDonald, D.B. 'Continuous Re-creation and Atomic Time in Muslim Scholastic Theology',Isis9 (1927), pp. 326-344.

[183] انظر مثلاً في كتاب أيّام الشأن، ص6.

[184] انظر مثلاً في الفتوحات المكية: ج2ص208س26، ج2ص385س4

[185] كتاب أيّام الشأن: ص6.

[186] كتاب أيّام الشأن: ص10.

[187] انظر مثلاً في كتاب أيّام الشأن: ص6.

[188] الفتوحات المكية: ج1ص292س16، وكذلك ج2ص826.

[189] انظر أيضاً في:

D. Deutsch and M. Lockwood, 'The Quantum Physics of Time Travel',Scientific American, March 1994.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!