موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
موقع الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي

نظرية الجوهر الفرد:

مفهوم الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي للزمن والخلق في ستة أيّام

دراسة وتأليف: د. محمد علي حاج يوسف

هذا الموقع باللغة الإنكليزية مخصص للدراسات حول نظرية الجوهر الفرد وازدواجية الزمان


الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية

أصل العالَم


يتساءلُ العديد من الناس عن عُمْرِ الكون ؟ أي متى بدأ العالَم ؟ والكثير من علماء الكون يُسايرون هذه الأسئلة ويعطون تخميناتٍ لعُمر الكون الطبيعي أنّه حوالي خمسة عشر ألف مليون سنة. إنّ أيّ جواب على مثل هذه الأسئلة سيُؤدّي مباشرة إلى نفس الجدل القديم الذي كان مستمراً بين مدرستي أفلاطون وأرسطو كما ذكرنا في الفصل الأوّل. فسواء كان الزّمن قبل العالَم أو فيه أو معه، أو أنّ كلاهما أبديّ، لا بدّ من التصدِّي للعديد من المتناقضات الناتجة عن ذلك. على سبيل المثال، يمكن أن نتساءل: إذا بدأ العالَم في نقطةٍ مُحدّدة من الزّمن، لماذا اختار الله هذه اللحظة الزّمنيّةبشكل خاصّ لخلق العالَم وهل كان يُمكنُ أن يخلقه قبل ذلك بعشرة دقائق أو بعدها ؟وكذلك يمكن أن نطرح السؤال الشائع: ماذا كان الله سبحانه وتعالى يفعلُ (أو ماذا كان يحدثُ) قبل بداية العالَم ؟ هذا وقد ناقشنا أيضاً من قبل في الفصل الأوّل تناقض الفرضيات الأخرى كأبديّة العالَم أو الزّمن.

يخرج ابن العربي من مثل هذه التناقضات الناتجة عن هذه الأسئلة بقوله إنّ السؤال بحدّ ذاته غير صحيح ولا معنى له، لأنّ العالَم مخلُوقٌ (أو بالأحرى يُخلق بشكلٍ مستمر) خارجَ الزّمن، والزّمن نفسه جزءٌ وهميّ من ذلك العالَم المخلُوق. فالله تعالى لم يخلق العالَم في الزّمن لأنّه لم يكن هناك شيء قبل العالَم سوى الله تعالى وهو خارجٌ عن الزّمن أيضاً، ولذلك فإنّ خلق العالَم لا يُمكن أن يُقارن بأحداثٍ أخرى زمنيّة. من جهة أخرى فإنّ قبليّة وجود الله تعالى قبل وجود العالَم هي قبليّة منطقيّة وليست قبليّة زمانيّة، أي أنّه ليس هناك أيُّ امتدادٍ زمنيٍّ بين وجود الله تعالى ووجود العالَم، بل إنّ وجود الله هو شرطٌ لوجود العالَم مثل قبليّة طلوع الشمس على بداية النهار؛ فنحن نقول إنّ الشمس تطلع قبل بداية النهار، ولكنّ ذلك لا يعني أنَّ هناك امتداداً زمنياً بينهما ولا ترتيباً زمنيّاً، لأن طلوع الشمس هو بحدّ ذاته بداية للنهار.[118] فكما أن طلوع الشمس شرط لبداية النهار كذلك وجود الله تعالى شرط لوجود العالَم من غير ترتيب زماني.

فإذا كان العالَم خُلق خارج الزّمان فلم يعد هناك أيّ معنى لأيّ سؤال يستخدم صيغة زمانيّة مثل "متى خلق الله العالَم" أو "ماذا كان... قبل" لأنّ هذه العبارات الزّمانيّة ليس لها معنى خارج الزّمن الذي ظهر في العالَم أو معه وليس قبله.

على كل حال ليس من السهل الاكتفاء بمثل هذه الشروحات لأننا منغمسون في الزّمن ولا يمكن أن نتصوّر شيئاً خارجه، فيما عدا إيماننا بأنّ الله تعالى منـزّهٌ عن الزّمان. وحتى ذلك يصعب تصوّره ولكنّ هذا الإيمان قلبيّ وغيبيّ وليس منطقياً بمعنى أنه لا يوجد عليه برهان عقليّ لا يعتمد على الإيمان. أما خلق العالَم خارج الزّمان فهو أمرٌ ليس من السهل تصديقه أبداً مهما قدّمنا له من البراهين، ولكننا سنحاول في هذه الفقرة الطويلة توضيح بعض جوانب المسألة.

يقول ابن العربي في الباب الثاني من الفتوحات المكية إنّ الحقائق أعطت لمن وقف عليها أنْ لا يتقيّد وجودُ الحقِّ مع وجود العالَم بقبليّة ولا معيّة ولا بعديّة زمانية، فإنّ التقدّم الزّماني والمكاني في حقِّ الله ترمي به الحقائق في وجه القائل به على التحديد؛ اللهمّ إلاّ إنْ قال به مِن باب التوصيل كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ونطق به الكتاب، إذ ليس كلّ أحدٍ يقوى على كشف هذه الحقائق. فلم يبق لنا أنْ نقول إلا أنّالحقّ تعالى موجودٌ بذاته لذاته، مطلقَ الوجود غيرَ مقيّدٍ بغيره ولا معلولٍ عن شيءٍ ولا علَّةًلشيءٍ، بل هو خالق المعلولات والعِلل والمَلِكُ القدّوسُ الذي لم يزل، وأنّ العالَم موجودٌ بالله تعالى لا بنفسه ولا لنفسه، مقيّدَ الوجود بوجود الحقّ في ذاته، فلا يصحّ وجود العالَم ألبتة إلا بوجود الحق. وإذا انتفى الزّمان عن وجود الحق وعن وجود مبدأ العالَم، فقد وُجد العالَم في غير زمان. فلا نقول من جهة ما هو الأمر عليه إنّ "الله موجودٌ قبل العالَم"، إذ قد ثبت أن القبل من صيغ الزّمان ولا زمان، ولا أنّ العالَم موجودٌ "بعد وجود الحق" إذ لا بعدية، ولا "مع وجود الحق" فإنّ الحق هو الذي أوجده وهو فاعله ومخترعه ولم يكن العالَم شيئاً. ولكن كما قلنا إنّ الحقّ موجودٌ بذاته والعالَم موجودٌ به، فإن سأل سائل ذو وهم: "متى كان وجود العالَم من وجود الحق ؟" قلنا أنّ "متى" سؤالزمانيوالزّمان من عالَم النسب وهو مخلوق لله تعالى لأنّ عالم النسب له خلق التقدير لا خلق الإيجاد، فهذا سؤال باطل؛ فانظر كيف تسأل ! فإياك أن تحجبك أدوات التوصيل عن تحقيق هذه المعاني في نفسك وتحصيلها. فلم يبقَ إلا وجودٌ صرفٌ خالصٌ لا عن عدم (وهو وجود الحق تعالى) ووجودٌ عن عدمِ عينِ الموجود نفسه (وهو وجود العالَم) ولا بينيّة بين الوجودين ولا امتداد إلا التوهّم المقدَّر الذي يحيله العلم ولا يُبقي منه شيئاً. ولكن هذان الوجودان هما وجودٌ مطلقٌ ووجودٌ مقيّدٌ، وجودُ فاعلٍ ووجودُ منفعلٍ؛ هكذا أعطت الحقائق، والسلام.[119]

لكن حتى بعد هذا الشرح الطويل والجُهد المضني لا تزال القضية غامضة جدّاً حتى الآن (إذا أردنا تحليلها منطقياً بعيداً عن الإيمان الغيبي)، لأنّه بمجرّد تثبيت خيالنا على نقطة بداية للعالم ينطلق السؤال تلقائياً عن ماذا كان قبلها؛ فمن غير الممكن أن نتخيّل نقطةَ بداية للزمن ليس قبلها شيء، ومن أجل ذلك كما رأينا رفَض أرسطو زعْمَ أفلاطون أنّ العالَم والزّمن خُلقا سويّة، كما رأينا في الفصل السابق. من أجل تخطي هذه العقبة يفترض ابن العربي حالةً خاصّةً من الوجود للعالَم في علم الله تعالى، وبهذا فإنّ وجود العالَم أزليّ مع وجود الله ولكن ليس بشكلٍ مادّيّ كما هو عليه الآن، إنّما الشكل المادّيّ الموجود الآن كان له بداية محدّدة في الزّمن الذي كان قبل خلق العالَمزمناً روحانياً في حين أنّ الزّمن الطبيعي وُجد مع وجود العالَم لأنّ الزّمن الطبيعي لا يمكنتخيّله بدون وجود أجسامٍ مادّية تتحرّك كما رأينا أعلاه.[120]

فالعالَم بالنسبة لابن العربي كما أسلفنا في الفصل الأوّل هو عالَم روحانيّ وعالَم مادّيّ وهُما متداخلان معاً ولا يمكن فصلهما عن بعضهما.[121] فوجود العالَم الطبيعي المادي بدأ في نقطة زمنيّة محدّدة (وربما سينتهي بالشكل الذي هو عليه الآن في زمن لاحقٍ معيّن) في حين أنّ العالَم الروحاني ليس له بداية وليس له نهاية فهو أزليٌّ في الماضي وأبديٌّ في المستقبل، لأنّ وجوده منوطٌ بوجود الله تعالى الذي من أسمائه الدّهر كما سنرى أدناه بالتفصيل، والدّهر دورة زمنيّة غير متناهية ليس لها بداية وليس لها نهاية، فهي دورة مثل الدائرة لا يُمكن أن تُوصف أنها لها بداية ولا نهاية ولا اتجاه، ولكن عندما نضع نقطةً عليها (وهي نقطة الزّمن الحاضر الذي نحن فيه) نُعرِّفُ بذلك بدايةً ونهايةً واتّجاهاً.[122]

ولوضع كل ذلك في إطارٍ واحدٍ ورؤيةٍ متكاملةٍ عن الوجود يقول ابن العربي إنّ هناك ثلاثة مراتب من الوجود (وهو نفس المبدأ المعروف عند ابن سينا ومدرسته[123]): واجبُ الوجود وممكنُ الوجود ومستحيلُ الوجود. فالمرتبة الأولى لا تصحّ إلا لله سبحانه وتعالى وهو الحقّ الموجود بنفسه (بالإضافة إلى وجود الجوهر الفرد الذي يقول عنه ابن العربي إنه واجب الوجود أيضاً ولكن بالله تعالى وليس بنفسه)، والمرتبة الثانية هي مرتبة العالَم كلّه وهو الخلق الموجود بالله، والمرتبة الثالثة هي مرتبة العدم المحض وهو الباطل الذي لا يصحّ وجوده لا بنفسه ولا بغيره.[124] وما يهمّنا هنا الآن هو وجود الخلق أي الممكن، فهذا وجودٌ بالله كما قلنا وهو  أنّ الخلق كان في العدم ولكن في عدمٍنسبيٍّ ولكي ينتقل إلى الوجود الفعلي لا بدّ له من مرجّحٍ وليس غير الله تعالى، إذ لا يستطيعأن يخلق نفسه بنفسه ولا يستطيع العدم أن يخلقه فلم يبق إلا الله تعالى الواحد الأحد الموصوف بالوجود الواجب لنفسه، ولذلك نقول إنّ وجود الخلق وجودٌ بالله لا بنفسه إذ لو كان وجوداً بنفسه لكان غنيّاً عن الله والأمر ليس كذلك، بل هو مفتقرٌ إلى الله تعالى لكي يوجده أي لكي ينقله من الوجود الممكن إلى الوجود الفعلي، وهذه الصفة (أي صفة الفقر إلى الله تعالى) هي بالحقيقة صفة تصطحب الخلق لأنّ وجودهم لا يستمرّبذاته بل الله يحفظ عليهم وجودهم في كلّ يوم (أي في كلّ آن) حيث يخلقهم من جديد على ما سنرى بالتفصيل لاحقاً. ومن جهة أخرى فإنّ الفرق بين ممكنِ الوجودِ ومستحيلَ الوجودِ هو أنّ الأخير لا يمكن وجوده مطلقاً لأنّه لا يقبل ذلك مثلَ وجود شريك لله تعالى، فهذا لا يكون، وكذلك مثلاً وجود دائرة مربعة إلى غير ذلك من المستحيلات التي تعيّنَ في علم الله المسبق أنّه لا يمكن أن تكون.[125]

إذن فإنّ العالَم موجودٌ منذ الأزل في علم الله تعالى على أنّه شيء يمكن وجوده ثم ينقله الله تعالى إلى الوجود مرتّباً على الزّمان والمكان الذي قدّره سبحانه، لذلك يقولابن العربي إنّ الله تعالى عندما أوجد الأعيان (أي أشخاص العالَم) فإنّما أوجدها "لها" لا "له"،وهي على حالاتها بأمكنتها وأزمنتها على اختلاف أمكنتها وأزمنتها؛ فيكشف لها عن أعيانها وأحوالها شيئاً بعد شيء إلى ما لا يتناهي على التتالي والتتابع، فالأمر بالنسبة إلى الله واحدٌ كما قال تعالى في سورة القمر: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)﴾ والكثرة في نفس المعدودات. ثم يوضّح ابن العربي ذلك بأن يضرب مثالاً كشخصٍ واحدٍ له أحوالٌ مختلفة وقد صُوّرت له صورة في كل حال يكون عليها، فهكذا كلّ شخص من أشخاص العالَم وقد جعل الله بيننا وبين هذه الصور حجاباً فيكشف لنا عنها ونحن من جملة من له فيها صورة فندرك جميع ما فيها عند رفع الحجاب بنظرة واحدة فنرى أنفسنا على ما نكون عليه، وليس في نظر الحقّ زمان ماضٍ ولا مستقبلٌ بل الأمور كلُّها معلومةٌ له في مراتبها بتعداد صورها فيها، ومراتبها لا توصف بالتناهي ولا تنحصر ولا حدّ لها تقف عنده، فهكذا هو إدراك الحقّ تعالىللعالم ولجميع الممكنات في حال عدمها ووجودها، فعليها تنوّعت الأحوال في خيالها لا فيعلمها فاستفادت من كشفها لذلك علماً لم يكن عندها لا حالةً لم تكن عليها. ثم يقول الشيخ محي الدين: "فتحقق هذا فإنها مسألة خفيّة غامضة تتعلق بسرّ القَدَر القليل من أصحابنا من يعثر عليها."[126] فانظر ما هي أهميّة فهمِ الزّمن إذاً!

على أية حال، على الرغم مما ذكرناه أعلاه عن أنّ العالَم كان موجوداً منذ الأزل في علم الله تعالى، فهذا لا يعني أبداً أنّ العالَم نفسه قديماً بل هو محدثٌ أوجده الله تعالى بعد أن لم يكن موجوداً، وذلك بخلاف ما اتّهمه به المنتقدون لابن العربي مثلما ذكرنا. وفي الحقيقة حتى بعض أنصار ابن العربي من الباحثين الدارسين لعلومه قد يخطئون أحياناً في هذه المسألة مع أنّ ابن العربي ذكر رأيه فيها بوضوح في أماكن عديدة كما ذكرنا في كتاب شمس المغرب. فنجد مثلا أن الكاتب الشهير هنري كوربن يستنتج بأنّه ليس هناك مكان في تفكير ابن العربي عن الخلق من عدم، أي عن بداية مُطلقة سُبقت بلا شيء،[127] بينما ابن العربي يفتتح الفتوحات المكية بقوله في خطبتها: "الحمد لله الذي خلق الأشياء عن عدم".[128] ويقول أيضاً في مزيدٍ من التفصيل في كتاب الدرّة البيضاء إنّ الوجود الممكن لا يكُون إلا بعد عدم الوجود، وإلا فكيف يكون ممكناً لو كان موجوداً دائماً، وكيف نقول إنّ الله خلقه أي نقله إلى الوجود لو كان وجوده أبديّاً، فهذا لا يصح.[129]

إذا كان كوربن يعني ما وضّحناه في الفقرة السابقة عن الوجود المسبق في علم الله تعالى، فليس هذا وجوداً فعلياً بل هو وجود علمي، ولمعرفة الفرق بينهما بدقة يجب أن نحقق الفرق بين الذات أو العين والماهية، فأعيان الموجودات هي التي كانت موجودة في علم الله تعالى منذ القدم ولكنّ ماهيّاتها مُحدثة. وقد شرح ذلك بالتفصيل وليام جيتيك في كتابه "الطريق الصوفي للمعرفة".[130] وكذلك يوضح ابن العربي ذلك في الدرّة البيضاء فيقول إن كُلّ شيء مفتقر إلى الله تعالى من أجل إيجاد عينه وليس من أجل عينه، لأنّ الأعيان ثابتة في الأزل في علم الله تعالى وهي تحتاج إلى مرجّح لينقلها إلى الوجود الفعلي وهو الله سبحانه الذي أوجدها بعد أن لم تكن.[131]

وكما أسلفنا فسوف نرى لاحقاً (في الفصل الخامس والسادس) بأنّ هذا الافتقار إلى الله تعالى لنقل هذه الأعيان إلى الوجود ليس أمراً تمّ وانتهى بل هو أمرٌ مستمرّ لأن وجود الأعيان لا يستمرّ زمانين أبداً بل في كلّ وقت لا يزال الله تعالى ينقلها من الوجود الممكن إلى الوجود الفعلي، وقد عبّر الله تعالى عن ذلك في القرآن الكريم بالظلمات والنور، فالظلمات هي العدم والنور هو الوجود، ويتم نقل الأعيان من الظلمات إلى النور عن طريق الجوهر الفرد وهو العقل الأوّل كما أسلفنا في المقدّمة وهو أيضاً روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي تجلّى له الله تعالى من اسمه العليم وأمره أن يكتب (من كونه القلم) ما سيكون إلى يوم القيامة. فقال الله تعالى في القرآن الكريم في الآية الأولى من سورة إبراهيم ﴿الر ۚ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)﴾.

ومع كلّ ما سبق فلا يزال هناك صعوبة على العقل الإنساني أن يتخيّل وجود العالَم المخلُوق ووجود الله الأزلي أو القديم من غير تصوّر امتدادٍ زمنيّ بين وجود الله ووجود العالَم؛ وهو ما أدّى بالكثير من العلماء المسلمين الذين تعرّضوا لمثل هذه المسائل مثل مسألة خلق القرآن حتى انتهى بهم الأمر إلى الوصول إلى نتائج تخالف التنـزيه المطلق لله تعالى.[132] وبكل بساطة يبدو أنّ هذه المسألة فوق طور العقل، ذلك لأنّ العقل ما هو إلا جزء من الوجود ويحاول هنا أن يفهم الوجود كلّه وكيف بدأ، تماماً كمن يحاول أن يعرف ما هو خارج الغرفة من غير أن يخرج منها. ولكن ذلك لا يعني أيضاً أنّه لا يمكن معرفة حقيقة الزّمن وحقيقة العلاقة بين وجود الله ووجود الخلق، وإنما يجب أن تأتي هذه المعرفة من خارج العقل مع أنها لا تأتي إلا عن طريقه لأنه هو أداة المعرفة. فإذن بقي الطريق الوحيد للوصول إلى هذه المعرفة هي العلم الذوقي الذي يحصل في القلب بنتيجة التقوى كما بيّنه الشيخ محي الدين ابن العربي في كتبه المختلفة وخاصّة في مقدمة الفتوحات المكية وكما نوّهنا إلى ذلك في مقدمة شمس المغرب.

من خلال هذه المعرفة الذوقية يوضح ابن العربي العلاقة بين وجود الله ووجود العالَم في بداية الباب التاسع والخمسين من الفتوحات المكية والذي خصصه لموضوع الزّمن كما رأينا، فيقول إنّ الله تعالى هو الأوّل الذي لا أوّلية لشيءٍ قبله ولا أوّلية لشيءٍ يكون قائماً به أو غير قائمٍ به معه، فهو الواحد سبحانه في أوّليته، فلا شيء واجب الوجود لنفسه إلا هو، فهو الغنيّ بذاته على الإطلاق عن العالَمين. قال تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)﴾.

وهذا الكلام صحيح بالدليل العقلي والشرعي. وبالتالي فإن وجود العالَم لا يخلو إمّا أن يكون وجودُه عن الله لنفسه سبحانه، أو لأمر زائدٍ ما هو نفسه، إذ لو كان نفسه لم يكن زائداً، ولو كان نفسه أيضاً لكان مركّباً في نفسه، وكانت الأوّلية لذلك الأمر الزائد، وقد فرضنا أنه لا أوّلية لشيءٍ معه ولا قبله؛ فإذا لم يكن ذلك الأمر الزائدنفسَه فلا يخلو إما أن يكون وجوداً أو لا وجوداً. ولكنه محالٌ أن يكون لا وجوداًفإن "لا وجود" لا يصح أن يكون له أثر إيجادٍ فيما هو موصوف بأنه لا وجود (وهو العالَم قبل خلقه)؛فليس أحدهما بأولى بتأثير الإيجاد من الآخر إذ كلاهما لا وجود، فإن "لا وجود"لا أثر له لأنه عدم. ومن جهة أخرى محالٌ أن يكون هذا الأمر الزائد وجوداً فإنّه لا يخلو عند ذلك إمّا أن يكون وجودُه لنفسه أو لا يكون؛ ومحالٌ أن يكون وجوده لنفسه فإنّه قد قام الدليل على إحالة أن يكون في الوجود اثنان واجبا الوجود لأنفسهما (أي إلٰهان). فلم يبق إلا أن يكون وجودُ هذا الأمر بغيره؛ ولا معنى لإمكان العالَم إلا أنّ وجوده بغيره، فإذن هذا الأمر هو العالَم أو من العالَم. ومن جهة أخرى لو كان وجود العالَم عن الله لنسبةٍ ما لولاها ما وُجد العالَم تُسمى تلك النسبة إرادةً أو مشيئةً أو علماً أو ما شئت مما يطلبه وجود الممكن، فيكون الحق تعالى بلا شك لا يفعل شيئاً إلا بتلك النسبة، ولا معنى للافتقار إلا هذا وهو محالٌ على الله فإن الله له الغنى على الإطلاق، فهو كما قال غني عن العالَمين؛ فإن قيل إنّ المراد بالنسبة عينُ ذاته قلنا إنّ الشيء لا يكون مفتقراً إلى نفسه فإنّه غنيّ لنفسه فيكون الشيء الواحد فقيراً من حيث ما هو غنيّ، كلُّ ذلك لنفسه وهو محال. وقد نفينا الأمر الزائد أيضاً؛ فاقتضى ذلك أن يكون وجود العالَم من حيث ما هو موجود بغيره مرتبطاً بالواجب الوجود لنفسه وأنّ عينَ الممكن محلُّ تأثير الواجب الوجود لنفسه بالإيجاد ولا يُعقل إلا هكذا. فمشيئته وإرادته وعلمه وقدرته ذاته تعالى الله أن يتكثّر في ذاته علوّاً كبيراً، بل له الوحدة المطلقة وهو الواحد الأحد الله الصمد لم يلد فيكون مقدّمة ولم يولد فيكون نتيجة، ولم يكن له كفواً أحد فيكون به وجود العالَم نتيجة عن مقدمتين عن الحق والكفؤ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيرا. وبهذا وصف الله نفسه سبحانه في كتابه لمّا سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن صفة ربه فنـزلت سورة الإخلاص للتخليص من الاشتراك مع غيره تعالى الله في تلك النعوت المقدسة والأوصاف. فما من شيء نفاه في هذه السورة ولا أثبته إلا وذلك المنفي أو المُثبَت مقالة في الله لبعض الناس.[133]

نجد إذاً من خلال هذا الشرح المفصّل أساس رؤية ابن العربي المُتميّزة للخلق، وهي ما يعرف بوحدة الوجود التي كثيراً ما يُساء فهمها على نطاق واسع في حين أنها من صميم القرآن الكريم الذي هو كلام الله تعالى، ولكنها حقيقة عصيّة على الفهم إلا بعد الدراسة والتمحيص. ولذلك نجد أنّ ابن العربي نفسه لا يستطيعُ أن يسردها بوضوح وبساطة في مكان واحد إلا على سبيل الإشارة، لأن فهمها المباشر لا يعتمد على المنطق فقط، بل على الإيمان الذوقي، والذي في النهاية لا يمكن أن يتعارض مع المنطق بعد التمحيص، بل قد يتعارض كثيراً مع الحسّ العام الذي انغمس في ظلمات المألوف.

إن ما يحاول ابن العربي إثباته في هذه النصوص الطويلة التي سردناها أعلاه أنّ وجود العالَم يعتمد بشكل كلّي على وجود الحق سبحانه، وهذا الاعتماد أو الافتقار أمر يلازم العالَم في وجوده، ولو غفل الله عنه لمحة واحدة فَنِيَ العالَم تلقائياً. من جهة أخرى فإن الله تعالى لم يزد عليه شيء من خلقه للعالم ولم يرجع إليه شيء لم يكن عليه، لأن العالَم موجود به منذ الأزل وما تجدد هو الوجود الفعلي للعالم بالنسبة إلى أجزائه المنتشرة على نواحي المكان والممتدة على فترات الزّمان، في حين أن العالَم ككل لا يزال ثابتاً في علم الله منذ الأزل وإلى الأبد. تبقى هناك دائماً مشكلة الربط بين ذوات العالَم المتعددة ووحدة الله تعالى وأحديته التي يقابل بها جميع ذوات العالَم، وهذا الربط لا يمكن فهمه إلا بعد فهم الجريان الحقيقي للزمن ومعنى الخلق في ستة أيّام الذي سندرسه في الفصل الثالث والرابع إن شاء الله تعالى، بعد أن نلقي عليه بعض الضوء في الفقرات التالية أدناه.


[118] الفتوحات المكية: ج1ص100س26. انظر أيضاً في المسالة 25 من كتاب المسائل من ضمن مجموعة رسائل ابن العربي (دار إحياء التراث العربي: بيروت)، ج2ص22.

[119] الفتوحات المكية: ج1ص909. وانظر أيضاً في: المسائل لإيضاح المسائل، تأليف ابن العربي، تحقيق قاسم محمد عباس (دار أزمنة: عمّان، 1999): ص91.

[120] فلقد تكلّم ابن العربي بالتفصيل عن تسلسل الخلق في الزّمن كما فعل مثلاً في الباب 371 من الفتوحات المكية (ج3ص416) وكذلك في الباب السابع منها (ج1ص121).

[121] في الحقيقة إنّ ابن العربي يوضّح بأنّ هناك ثلاثة مستويات من الوجود في العالَم له ثلاثة هي عالَم المُلك وهو عالَم الشهادة أي العالَم المادّي الذي نشهده عادة، وعالَم الملكوت وهو عالَم المعاني والغيب، وعالَم الجبروت وهو عالَم البرزخ (الفتوحات المكية: ج1ص5415، ج2ص129س16). وانظر أيضاً في المسألة 150 من كتاب المسائل.

[122] الفتوحات المكية: ج1ص387س32، ج3ص546س30.

[123] انظر في:

Nasr,S. Hussein,An Introduction to Islamic Cosmological Doctrines, pp. 173-274 [Ibn Sînâ] .

[124] الفتوحات المكية: ج2ص293س1، ج2ص575-576.

[125] الفتوحات المكية: ج1ص300س32، ج2ص114س15.

[126] الفتوحات المكية: ج1ص162س22.

[127] انظر في:

Henry Corbin,Alone with the Alone, p. 200.

[128] الفتوحات المكية: ج1ص2س3.

[129] انظر في رسالة الدرّة البيضاء، من ضمن رسائل ابن العربي (دار الانتشار: بيروت، 2002)، تحقيق عبد الفتّاح سعيد، الجزء الثاني ص131-145 [133] .

[130] وليام جيتيك: الطريق الصوفي للمعرفة، ص77-143.

[131] الدرّة البيضاء: ص133. وانظر كذلك المسألة 143 من كتاب المسائل.

[132] انظر في كتاب الأزل، من ضمن مجموعة رسائل ابن العربي (دار صادر: بيروت).

[133] الفتوحات المكية: ج1ص291ص8.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب


بعض كتب الشيخ الأكبر

[كتاب الجلالة وهو اسم الله] [التجليات الإلهية وشرحها: كشف الغايات] [ترجمان الأشواق وشرحه: الذخائر والأعلاق] [مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم] [التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية] [عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب] [كتاب كلام العبادلة] [كتاب إنشاء الدوائر والجداول] [كتاب كنه ما لابد للمريد منه] [الإسرا إلى المقام الأسرى] [كتاب عقلة المستوفز] [كتاب اصطلاح الصوفية] [تاج التراجم في إشارات العلم ولطائف الفهم] [كتاب تاج الرسائل ومنهاج الوسائل] [الوصية إلى العلوم الذوقية والمعارف الكشفية ] [إشارات في تفسير القرآن الكريم] [الفتوحات المكية] [فصوص الحكم] [رسالة روح القدس في مناصحة النفس] [كتاب الأزل - ثمانية وثلاثين] [أسرار أبواب الفتوحات] [رسالة فهرست المصنفات] [الإجازة إلى الملك المظفر] [محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار] [رسالة الأنوار فيما يمنح صاحب الخلوة من الأسرار] [حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال] [كتاب الألف وهو كتاب الأحدية] [كتاب العظمة] [كتاب الباء] [كتاب الياء وهو كتاب الهو] [كتاب الحروف الدورية: الميم والواو والنون] [رسالة إلى الشيخ فخر الدين الرازي] [الإسفار عن نتائج الأسفار] [كتاب الشاهد] [الحكم الحاتمية] [الفناء في المشاهدة] [القسم الإلهي] [أيام الشأن] [كتاب القربة] [منزل القطب ومقاله وحاله] [منزل المنازل الفهوانية] [المدخل إلى المقصد الأسمى في الإشارات] [الجلال والجمال] [ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا] [رسالة المضادة بين الظاهر والباطن] [رسالة الانتصار] [سؤال اسمعيل بن سودكين] [كتاب المسائل] [كتاب الإعلام بإشارات أهل الإلهام]

شروحات ومختصرات لكتاب الفتوحات المكية:

[اليواقيت والجواهر، للشعراني] [الكبريت الأحمر، للشعراني] [أنفس الواردات، لعبد اللّه البسنوي] [شرح مشكلات الفتوحات، لعبد الكريم الجيلي] [المواقف للأمير عبد القادر الجزائري] [المعجم الصوفي - الحكمة في حدود الكلمة]

شروح وتعليقات على كتاب فصوص الحكم:

[متن فصوص الحكم] [نقش فصوص الحكم] [كتاب الفكوك في اسرار مستندات حكم الفصوص] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح فصوص الحكم] [كتاب شرح فصوص الحكم] [كتاب جواهر النصوص في حل كلمات الفصوص] [شرح الكتاب فصوص الحكم] [كتاب مطلع خصوص الكلم في معاني فصوص الحكم] [كتاب خصوص النعم فى شرح فصوص الحكم] [شرح على متن فصوص الحكم] [شرح ا فصوص الحكم للشيخ الأكبر ابن العربي] [كتاب نقد النصوص فى شرح نقش الفصوص] [تعليقات على فصوص الحكم] [شرح كلمات فصوص الحكم] [المفاتيح الوجودية والقرآنیة لفصوص حكم]

بعض الكتب الأخرى:

[كتاب الشمائل المحمدية للإمام أبي عيسى الترمذي] [الرسالة القشيرية] [قواعد التصوف] [كتاب شمس المغرب]

بعض الكتب الأخرى التي لم يتم تنسيقها:

[الكتب] [النصوص] [الإسفار عن رسالة الأنوار] [السبجة السوداء] [تنبيه الغبي] [تنبيهات] [الإنسان الكامل] [تهذيب الأخلاق] [نفائس العرفان] [الخلوة المطلقة] [التوجه الأتم] [الموعظة الحسنة] [شجرة الكون]



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!